كتاب ((بُلُوغ اَلْمَرَامِ مِنْ أَدِلَّةِ اَلْأَحْكَامِ))، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) من أفضل ما أُلف في أحاديث الأحكام([1])، وقد كُتب له الذيوع والانتشار والقبول، وقد كنتُ في أثناء شرحه للطلاب في كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم(فرع جامعة الإمام سابقاً)، وفي الدورات الصيفية المقامة في مدينة بريدة أجمع مادة علمية في شرح الأحاديث استعين بها في شرحه للطلاب، ثم رأيت أن أهذب هذه المعلومات وأزيد عليها وأعيد صياغتها في هذا الشرح، وأود في هذه المقدمة أن أُشير إلى بعض الأمور المهمة كما يأتي:
1- تضمن كتاب ((بُلُوغُ اَلْمَرَامِ مِنْ أَدِلَّةِ اَلْأَحْكَامِ))، (750) حديثاً في الصحيحين أو في أحدهما، و (655) حديثاً خارج الصحيحين من السنن والمسانيد والمعاجم وغيرها([2])، وما كان في الصحيحين من الأحاديث فلا يُحتاج إلى بحث عن إسناده سوى أحاديث نادرة أو روايات تكلم فيها الأئمة، وأما الأحاديث التي لم تُخرج في الصحيحين، أو تكون أصولها في الصحيحين ويوجد روايات متضمنة لزيادات لم تخرج في الصحيحين وتشتمل على أحكام فالتعامل مع هذه الأحاديث هو: البحث عن أسانيدها ودراستها، ومن المعلوم أن الأحاديث التي تكون أصولاً في أبوابها ولم تُخرج في الصحيحين فالغالب وجود علة فيها ولاسيما أحاديث الأحكام .
2- من المعلوم أن أحاديث ((بلوغ المرام)) أحاديث أحكام سوى ما جاء في ((كتاب الجامع)) الذي في آخر الكتاب فهو أحاديث آداب، وهذه الأحاديث متضمنة لأصول أحاديث الأحكام التي اعتمد عليها الأئمة المجتهدون في بناء المسائل الفقهية والاستدلال لها، إضافة إلى أحاديث أخرى لم تذكر في ((البلوغ))، ولا ريب أن الأئمة المجتهدين -لاسيما الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة- لهم أصول وقواعد مستنبطة من الكتاب والسُّنة، وهي تمثل كليات وأصول يندرج تحتها فروع وجزئيات كثيرة، قال الحافظ ابن رجب: ((وكان أهل الدراية والفهم من العلماء إذا احتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسُّنة ومعانيهما، وكلام الصحابة والتابعين ما يسره الله له، جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها ويستنبط منها، فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان، والكتاب فيه كلمات كثيرة، هي قواعد كلية وقضايا عامة تشمل أنواعاً عديدة وجزئيات كثيرة، ولا يهتدي كل أحد إلى دخولها تحت تلك الكلمات بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه، وأما الميزان فهو الاعتبار الصحيح، وهو من العدل والقسط، الذي أمر الله بالقيام به، كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع والتفريق بين المختلفين، لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق وكثيراً ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق ويدق فهمه)) ([10])، وقد أشار ابن القيم –باختصار- إلى بعض أصول الأئمة الأربعة فقال: ((من أصول مالك: اتباع عمل أهل المدينه، وإن خالف الحديث، وسد الذرائع، وإبطال الحيل، ومراعاة القصود والنيات في العقود، واعتبار القرائن وشواهد الحال في الدعاوى والحكومات، والقول بالمصالح والسياسة الـشرعية، ومن أصول أبي حنيفة: الاستحسان، وتقديم القياس، وترك القول بالمفهوم، ونسخ الخاص المتقدم بالعام المتأخر، والقول بالحيل، ومن أصول الشافعي: مراعاة الألفاظ والوقوف معها، وتقديم الحديث على غيره، ومن أصول أحمد: الأخذ بالحديث ما وجد إليه سبيلا فإن تعذر فقول الصحابي ما لم يُخالف، فإن اختلفوا أخذ من أقوالهم بأقواها دليلا، وكثيرا ما يختلف قوله عند اختلاف أقوال الصحابة، فإن تعذر عليه ذلك كله أخذ بالقياس عند الضرورة، وهذا قريب من أصول الشافعي بل هما عليه متفقان)) ([11]).
3- وقع في كتاب ((بلوغ المرام)) قصور في العزو في بعض المواضع، وقد يكون هذا من النُّسَّاخ، مثل أن يكون الحديث في الصحيحين ولا يُعزى إلا لمسلم أو البخاري، أو يكون في أحد الصحيحين ويعزى إلى غيرهما، أو يكون الحديث مخرجاً في الكتب الستة ومسند أحمد أو بعض هذه الدواوين فيحصل عزوه إلى من دونهم مثل معاجم الطبراني ومسند البزار ومستدرك الحاكم، ونحوها، وقد أشرتُ إلى هذا في مواضعه .